قضية الهوية قضية محورية، أزعجت كل الناس، إذ إن كل جماعة أو أمة تعوزها الهوية المتميزة ليمكنها المعيشة والمحافظة على وجودها؛ فالهوية هي التي تحفظ سياج الشخصية.
وبدونها يتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل تابع مقلد؛ لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، وبالتالي تحديد سمات شخصيته فتجعله إنسانًا ذا قيمة ولحياته معنى وغاية.
والهوية معناها: تعريف الإنسان نفسه فكرًا وثقافة وأسلوب حياة.. أو هي مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره.
وكما أن للإنسان هوية كذلك للمجتمع والأمم هوية.. فهناك مجتمع إسلامي، ومجتمع علماني، وهناك النصراني، وأيضا الشيوعي والرأسمالي.. ولكل منها مميزاتها وقيمها ومبادؤها.
فإذا توافقت هوية الفرد مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت الهويات كانت الأزمة والاغتراب. ومن هنا يمكنك فهم معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا؛ فَطُوبىَ لِلْغُرَبَاءِ"[مسلم].
هذه الهوية هي التي تتبناها النفس، وتعتز بالانتساب إليها، والانتماء لها، والانتصار لها، والموالاة والمعاداة على أساسها، فبها تتحدد شخصية المنتمى وسلوكه، وعلى أساسها يفاضل بين البدائل.
وبالنسبة للمجتمع تعتبر الحصن الذي يتحصن به أبناؤه، والنسيج الضام، والمادة اللاصقة بين لبناته، فإذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته المنتاقضات.
ولا شك أن مقومات الهوية هي العناصر التي تجتمع عليها الأمة بمختلف أقطارها من وحدة عقيدة، ووحدة تاريخ، ووحدة اللغة، والموقع الجغرافي المتميز المتماسك، وأعظمها لا شك هي العقيدة والتي يمكن أن يذوب فيها بقية العناصر.
والهوية الإسلامية في الحقيقة هي الانتماء إلى الله ورسوله وإلى دين الإسلام وعقيدة التوحيد التي أكمل الله لنا بها الدين وأتم علينا بها النعمة.
وجعلنا بها الأمة الوسط وخير أمة أخرجت للناس، وصبغنا بفضلها بخير صبغة (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[البقرة:138]
خصائص الهوية الإسلامية:
1 ـ أنها هوية العقيدة: فينضوي تحتها كل مسلم أيًّا كان مكانه أو شكله أو لغته؛ فلأهل الإسلام مميزاتهم الخاصة بهم، والتي تجعلهم كلهم تحت مسمى واحد ومعتقد واحد هو سماكم المسلمين من قبل. (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)[الأنبياء:92].
أنها لازمة لكل مسلم: لا يجوز لمسلم الخروج عنها، فهي فرض لازم (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[الأعراف:158]. " وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ يَهُودِيّ وَلاَ نَصْرَانِيّ، ثُمّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ".
أنها متميزة عمَّا عداها: وهذا التميز هو الذي يعطي كل قوم مقومات بقائهم، ويحفظ عليهم ثقافتهم وإيدلوجيتهم، فلا يذوبون في غيرهم ولذا شمل هذا التميز كل جوانب الحياة بداية من العقيدة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون:6]، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)[الفاتحة:6، 7].
ونهاية بالشكل الظاهر في الملبس والهيئة " إياكم وزي الأعاجم"، ومرورا بكل أمور الحياة العملية "ليس منا من عمل بسنة غيرنا".[الطبراني في الجامع الصغير]. (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ)[يونس:41].
أنها تستوعب حياة المسلم كلها وكل مظاهر شخصيته: فهي تامة الموضوع محددة المعالم تحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162، 163].
هي مصدر العزة والكرامة: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)[الأنبياء:10]، (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)[المنافقون:8]، (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر:10]، (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء:139]. وقال عمر رضي الله عنه: إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله.
تربط بين أبنائها برباط وثيق: فتجعل الولاء بين أتباعها والمحبة بين أصحابها وتربط بينهم برباط الأخوة والمحبة والنصرة والموالاة، فهم جسد واحد (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10]، (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آل عمران:103]، (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ)[الحجرات:11]، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. "المسلم أخو المسلم".
صراع الهويات:
لقد أدركت كل الأمم أن قضية الهوية قضية محورية، وأن من لم ينتبه إليها سيذوب حتمًا في ثقافة غيره، وستتلاشى مميزاته الخاصة ليكون ذيلًا أو ذنبًا.. وأعداء الأمة لم ولن يتركوها على هويتها الإسلامية وعقيدتها التوحيدية وثقافتها الإيمانية،بل يكيدون الليل والنهار، ليزحزحونا عنها ويطمسوها عنا.
قال تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)[البقرة:217] (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة:120] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)[النساء:89] (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)[البقرة:109]
والذي ينبغي أن ينتبه له أهل الإسلام أن الآخرون يحرصون على هوياتهم مع اجتهادهم في تذويب هوية المسلمين وطمس معالمها والنأي بهم بعيدا عن دينهم حتى لا يعود الإسلام إلى الساحة مرة أخرى وهذا واضح من خلال تصريحاته القوم وكلامهم:
في آخر عام 1967وفي محاضرة في جامعة برنستون الأمريكية صرح أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل حينها: " يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل، ولذا كان من أول واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي".
وفي صحيفة يديعوت أحرونوت بتاريخ 18378: " إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما.
ويجب أن يبقى الإسلام بعيدا عن المعركة إلى الأبد،ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واجدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش فإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا" اهـ.
وفي كتابه انتهز الفرصة" يقول الرئيس الأمريكي نيكسون: إننا لا نخشى الضربة النووية ولكن نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب". وقال أيضا: " إن العالم الإسلامي يشكل واحدا من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين".
وقال إيوجين روستو مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون لشئون الشرق الأوسط: "إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته ونظامه،وذلك يجعلها تقف معادية للعلام الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي.
وقد صرح مسؤول في الخارجية الفرنسية من فترة بـ: "أن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديدًا مباشرًا عنيفًا هو الخطر الإسلامي... ".
اهتمام كل أمة بهويتها:
الأمم التي تريد أن تبقى هي التي تحافظ على هويتها، ولذلك لا عجب أن تحاول كل دولة أو أمة أن تصون لأتباعها هويتهم وتحميهم عن غزو الثقافات الأخرى لثقافتهم.. فعندما رأى الفرنسيون أن اتفاقية الجات تؤدي إلى دخول المواد الثقافية الأمريكية بمعدلات كبيرة لفرنسا مما يشكل تهديدا صارخا لهويتهم القومية، رفضوا التوقيع على الجزء الثقافي من الاتفاقية وطالبوا بتخفيض تلك المعدلات.
وأما الدولة اللقيطة فحدث ولا حرج عن تمسكها بهويتها، فهي لم تقم إلا على أساس الدين اليهودي، وتحمل اسم نبي الله يعقوب "إسرائيل"، وليس لها دستور لأن دستورها التوراة، ويتشبث اليهود بتعاليمها في السياسة والاجتماع وحياة الأفراد أو هكذا يظهرون، وقد أحيوا اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة لتكون لغتهم الخاصة ولغة العلم عندهم.
يقول "أدولف كريمر" اليهودي: " جنسيتنا هي دين آبائنا ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى"
وعندما قال رئيس وزراء إحدى الدول العربية في ندوة في جامعة تل أبيب: "إننا في (بلدنا) نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية " رد عليه ديفيد فيثال قائلا: "إنكم أحرار في أن تفصلوا بين الدين والدولة، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط".
وأعجب من هذا أن يقوم الهندوس في بلاد الهند بمنع بيع الزهور في يوم عيد الحب " فالنتاين" وحرق المحلات التي تبيعه لأن ذلك ليس من الهندوسية ويحارب الثقافة الهندية.
وهذا كله إن دل فإنما يدل على مدى محافظة كل أمة على هوية أبنائها وحمايتهم من السقوط في هوة الانبهار بثقافات الآخرين.. فمتى نهتم نحن لهذا ونحوط أبناء أمتنا ونحميهم من الوقوع في هذه الحمأة..؟!
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية